الولادة وسط النيران : في الحادي عشر من نيسان سنة 1921 أُعلِنت إمارةُ شرق الأردنّ ذات حكمٍ ذاتيّ، كان هذا ثمرة جهودٍ مُضنية لجلالة المغفور له بإذن الله الملك عبدالله المؤسس بن الحسين، هذا الرجل الذي كان له من الحكمة وبُعد النظر والاجتهاد والحنكة نصيبٌ كبير، فالدارسُ لتاريخ الأردنّ السياسي يجد أنّ الأردنّ كما نراه الآن شجرة غرس بذرتها الملك المؤسس رحمه الله وسقاها بحكمته وبعد نظره، وأحاطها بشجاعته وعدله، وترك رعايتها بعده لرجالٍ كرّسوا أنفسهم لخدمةِ هذا الطَلعِ النابت مؤمنين أنّه واجبٌ وعناء لا هبةٌ ورخاء. كانت ولادة الإمارة ولادةً وسط النيران،مطامعٌ استعماريّة، فرنسيون في سوريا الكبرى- آنذاك -، توتراتٌ وحروب في الحجاز، مخلفاتُ حكمٍ عثمانية، قبائل تتنازعُ على الكلأ ومناطق النفوذ، حكوماتٌ محليّة غير قادرة على فرض القانون والنظام، منفصلةٍ متضاربةِ المصالح هشّةٍ غير قادرة حتى على حماية أنفسها، وسط كلّ هذه الفوضى برز الملك المؤسس رحمه الله يحملُ فكرةً وغاية، رجلٌ قوميٌّ من سلالة أشراف العرب، عرف كما أسلافُه أنّ الذي يُبنى على حقّ يستمر، وأنّ الظلام وإن طال عهده زائلٌ لا محالة، وأقتبس هنا من رسالته رحمه الله لابنه ووليّ عهده آنذاك جلالة المغفور له بإذن الله الملك طلال بن عبدالله :
« لا يمكث في هذه الأرض إلا النافع، ولا يصح إلا الصحيح، ولا يرتفع في النهاية إلا منار الحق، وأن للباطل جولة ثم يضمحل، وأن الليل الحالك مهما طال أمده لا بد إلا أن يعقبه نهار مضيء يبدد كل ظلام، وأن القيم الأخلاقية والمثل العليا هي التي تسود ويكتب لها الخلود في النهاية «… إلى قوله : « أننا معشر أهل البيت مكلفون بحمل الأمانة، وأداء الرسالة، واحتمال كل أذى حتى نتمكن من بلوغ الأهداف وتحقيق الأماني، وإيصال هذه الأمة إلى محجة النصر والعلاء «. وبعد سنين من العمل الشاق الدؤوب استطاع جلالة الملك المؤسس رحمه الله رسم ملامح الدولة الأردنية، دولةَ قانونٍ واحترامٍ لحقوق الإنسان، دولةً متجانسةً ترفض العنصرية والفوضى، وهنا أقتبس من مذكرات جلالة الملك عبدالله المؤسس رحمه الله عندما غادر معان في مطلع آذار عام 1921 متوجها إلى عمّان : « إنني الآن مودعكم، وأود ألَّا أرى بينكم من يعتزي إلى إقليمه الجغرافي»… إلى قوله : « البلاد العربية كافة هي بلاد كل عربي « نعم هي دولة المؤسسات التي ترفض العنصرية وتؤمن بالعمل الجماعي المُنظّم، ذات سيادة و قوّة عسكرية رادعة، وقاد هذا كله إلى الاستقلال في الخامس والعشرين من أيار سنة 1946 باعترافٍ أمميّ وأُعلن المغفور له بإذن الله الملك المؤسس ملكاً للمملكة الأردنية الهاشمية.
هكذا قامت الدولة الأردنية منذ النشأة الأولى على الحقّ ورفض الظلم، مؤمنة بالشرعية والقانون، ساعية إلى مأسسة الدولة في كلّ المجالات، داعمةً للعلم محاربةً للجهل، وما اقرار حقّ التعليم المجاني للجميع في عهد المغفور له بإذن الله جلالة الملك طلال بن عبدالله إلا تأكيدا على هذا الأساس العلمي للدولة، وصدر في عهده رحمه الله الدستور الجديد الذي يعد نواة و قلب الدستورية الأردنية مؤكداً أنَ القانون هو سيّد الموقف وحاسمه.
اشتدّ عود الغرس ونما بثباتٍ لا يعرف إلاّ اتجاها واحداً صوب المعالي، وكبر الغرس شجرة طيّبة في عهد المغفور له بإذن الله الراحل الكبير باني الأردن جلالة الملك الحسين بن طلال المعظم، اجتاحت جذورها الأرضَ مؤسسات حكوميّة، وشكل الجيشُ العربيُّ والمؤسساتُ الأمنية كافة جذعها المتين الصامد، وأظلها القانون أغصانا ريّانةً خضراء تُفيء من تحتها أمنا واستقراراً وصونَ حقوق، وفي عهد صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين المعظّم حفظه الله ورعاه كبُرت الشجرةُ واخضوضرت، وطالت أغصانها وزادت مساحة ظلّها حتى فيّأت كل من التجأ الى ظلّها من حرّ الظلم والاضطهاد، وقسوة الحروب وتُجّارها، تأكيدا على أنّ ديدن الهاشمين في حكمهم انتماءٌ للقومية العربية وقضايا الأمة، ونُصرةٌ للحقّ أينما وجد. وفي عهده حفظه الله اشتدّ جذع الشجرة وصمد في وجه كل الأعاصير التي ضربت بالمنطقة.
القصّةُ باختصار : ولادةٌ وسط النيران، واقع جيوسياسيّ قاسي، مواردُ محدودة، دولة مستقرّةٌ راسخة تتطور باستمرار، إنّهُ الأردنّ! أرضٌ مباركة، قيادةٌ محنّكة، قيمٌ ثابتة، شعبٌ أصيلٌ مُلتفٌّ حول قيادته ومبادئه، قانونٌ سائدٌ وانسانيّةٌ تُحتَرَم، هذه قصة النجاح ومكوناتها باختصار، إنّهُ الأردن!
ماذا نريد من المئوية الثانية؟
هذا ما سيكون موضوع المقال القادم بمناسبة مئوية الدولة الأردنية إن شاء الله.
*رئيسة الاتحاد النسائي الأردني العام