نستكمل ماذكرت في المقال السابق من تاثير الثقافه القوي والفاعل في تكوين شخصية الانسان حيث توفر الثقافة للفرد صور السلوك والتفكير والمشاعر التي يبغي ان يكون عليها، ولا سيما في مراحله الأولى، بحيث ينشأ على قيم وعادات تؤثر في حياته بحسب طبيعة ثقافته التي عاش فيها، توفر الثقافة للأفراد تفسيرات جاهزة عن الطبيعة والكون وأصل الإنسان ودورة الحياة وتوفر الثقافة للفرد المعاني والمعايير التي يستطيع أن يميز في ضوئها ما هو صحيح من الأمور، وما هو خاطىء و تنمي الثقافة الضمير الحي عند الأفراد بحيث يصبح هذا الضمير فيما بعد الرقيب القوي على سلوكاتهم ومواقفهم.

وتنمي الثقافة المشتركة في الفرد شعور بالانتماء والولاء فتربطه بالآخرين في جماعته بشعور واحد وتميزهم عن الجماعات الأخرى وتكسب الثقافة الفرد الاتجاهات السليمة لسلوكه العام في إطارالسلوك المعترف به من قبل الجماعة إن ردود فعل الفرد تجاه النظام هي التي تؤدي إلى نموذج السلوك الذي ندعوه الشخصية وتصنيف النظم في أنظمة أولية وانظمة ثانوية، فالنظم الأولية تنشأ عن الشروط التي يمكن أن يتحكم فيها الفرد كالغذاء وأنظمة التعليم المختلفة أما النظم الثانوية فتنشأ من إشباع الحاجات وانخفاض التوتر الناجم عن النظم الأولية مثال ذلك اعتقاد بعض الشعوب بآلهة تطمئن القلق الناجم عن حاجة هذه الشعوب إلى تأمين موارد غذائية دائمة.

إن ما يميز هذا الرأي عما سبقه هو صفته الديناميكية لأن بنيان الشخصية الأساسية ينتج عن تحليل النظم الاجتماعية وتحليل أثرها على الأفراد في ثقافة بعد أخرى ومما أدى فيما بعد إلى تسهيل الدمج بين الأسلوبين الأنثروبولوجي والسيكولوجي التخلي عن الفرضية التطورية التي استغلها العلماء الأنثروبولوجيون الأوائل والواقع إن الفرضية النظرية التطورية تلاشت وحل محلها مفهوم الثقافات بوصفها وحدات وظيفية متكاملة، كما ظهر الاتجاه إلى دراسة المجتمعات البدائية باعتبارها کيانات قائمة بذاتها وهذا ما دعا إليه مالينوفسكي الرائد الأول لهذه الحركة.

لقد اعتمد الباحثون النفسيون في الواقع على نتائج ملاحظاتهم المحدودة، كما لو أنها قضايا مسلم بصحتها، فافترضوا وجود غرائز عامة متنوعة لتعليل ما لاحظوه من ظاهرات ثم تبين لهؤلاء العلماء أن معايير الشخصية تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات، فكان هذا الاكتشاف بمنزلة صدمة اضطرتهم إلى اتخاذ خطوات جذرية لإعادة تنظيم مفاهيمهم، ولذلك فإنه على الرغم من أن الشخصية ليست في واقع الحال إلا نتاجا للعوامل الثقافية في المقام الأول فإن الفرد ينزع من خلال تجربته الثقافية إلى تبني الشخصية النموذجية التي ترغب فيها جماعته، ولكن نجاح ذلك لا يتحقق بالكامل أبدا لأن بعض الأشخاص أكثر مرونة من غيرهم، وبعضهم الآخر يقاوم عملية التثقيف أكثر من غيره، وهنا يمكن أن نميز بين ثلاث طرائق في بحث التفاعل بين الفرد وبين وسطة الثقافي.

الطريقة الأولى هي طريقة الأشكال الثقافية التي تسعى إلى تحديد الأنماط السائدة في الثقافات والتي تحبذ نمو بعض نماذج الشخصية،اما لطريقة الثانية هي طريقة الشخصية النموذجية التي تؤكد ردود فعل الفرد تجاه الوسط الثقافي الذي ولد فيه وهي طريقة أنثولوجية في أساسها لأن المرجع فيها دائما هو النظم الاجتماعية والأنماط الثقافية، التي تشكل الأطر التي ينمو بداخلها بنيان الشخصية السائد لدى الجماعة فهي تركز اهتمامها على الفرد، معتمدة على تطبيق التحليل النفسي وعلى الدراسة المقارنة لمشكلات أوسع تتمثل في مشكلات التلاؤم الاجتماعي اما الطريقة الثالثة هي طريقة الإسقاط، التي تستخدم طرائق الإسقاط المختلفة، في التحليل، ولا سيما مجموعة رورشاخ من بقع الحبر، وذلك التحديد نطاق بنيان الشخصية في مجتمع معين، وهكذا يمكن القول إن الثقافة تضفي على حياة الفرد قيمة ومعني وتكسب وجوده غرض له أهميته، وهي بالتالي تمد الأفراد بالقيم والآمال والأهداف التي توحد مشاعرهم وأساليب حياتهم غير أن تشكيل الثقافة تنمو إمكاناته وتتحرر قواه ويكتسب قدراته المتعددة ويصبح بالتالي قادرة على الاختيار الصحيح والتمييز الواعي، فالثقافة هي طرق حياة الناس مع الأخذ في الحسبان الفروق الفردية بين الأشخاص، من حيث تأثرهم بالثقافة أو تأثيرهم فيها.

لقراءة المقال في جريدة الدستور

لقراءة المقال في موقع عمون