إن علمية أدوات التفكير في منطق الشخصية الفذة تتعلق بظروف نشاط الإنسان خارج البيت، وهي أحوال العمل، وملائمته لميول الإنسان فالعمل غير المناسب الذي لا يلائم مواهب الناشىء وميوله قد يجره إلى الانحراف أو إلى التمرد، وقد ينعكس على شخصيته فتبرز عليها إمارات عدم التوافق والطريقة التي يقضي بها أوقات فراغه من نشاط رياضي أو هوايات علمية أو فنية أو أدبية لها علاقة وثيقة في تكوين شخصيته وإضفاء صفة الاتزان أو الضعف عليها. ونوع الأقران والأصدقاء الذين يصاحبون الإنسان في أوقات فراغه ونشاطاته الترويحية لهم أثر واضح في توجيه ميول لإنسان وتعزيز اتجاهاته.

وبالجملة فإن شخصية أي إنسان، هي نسيج من عوامل وراثية جسمية ونفسية يرثها الإنسان من آبائه ولا دخل له في وضعها العام متانة أو ضعفا، وعوامل بيئية محيطية تحيط بالإنسان قبل ولادته وتواكبه بعد الولادة، وهي مزيج من ظروف مادية وأخرى اجتماعية.

وهذه العوامل تتداخل وتتقاطع في شخصية الإنسان لتنتج منه إنسانا ذا ملامح مشخصة معينة، قد تكون مقبولة اجتماعية، أو مرفوضة، وقد تتألف مع ذاتها أو تتنافر فتشطر على نفسها، مسببة للإنسان الاما نفسية مؤرقة.

بين الوراثة والمحيط عرفنا أن التكوين النفسي لشخصية الإنسان إنما هو نتيجة تفاعل عوامل فطرية وراثية مع عوامل البيئة المادية والاجتماعية، ويتعذر علينا تصور انعزال أحد العوامل عن الأخرى لأنها تتبادل التأثير منذ لحظة الحمل الأولى وتستمر باستمرار حياة الفرد، فالاستعدادات الفطرية لا تتفتح ولا تنمو نموا طبيعيا إلا برعاية البيئة، والبيئة لا تستطيع إيجاد شيء من العدم، بل إنها قادرة على تقديم العون والرعاية لما هو كائن وموجود بالفعل.

فعملية التكوين الزراعي مثلا تقتضي وجود البذرة والتربة معا، شريطة أن تكون التربة متوافرة على عوامل الرعاية والصلاح، لتنبت نبات صحيحا، والبذرة مهما كانت جيدة فإنها لا تنبت إذا وضعت في صندوق مقفل أو ألقيت على رف في غرفة، والتربة الصالحة لا تستطيع فعل شيء إذا كانت البذرة غير صالحة للنمو، فاقدة للاستعدادات الذاتية والأرض بعد ذلك مهما كانت جيدة وخصبة لا تستطيع قلب خصائص البذرة إلى خصائص مغايرة كأن تقلب نبات الحنطة برتقال.

ولذلك نرى القرآن الكريم يلفت نظر الزراع إلى حقيقة جهودهم في الزراعة واعتمادها أصلا على القدرات التي ادخرها الله في بذور النباتات وخصائص الإخصاب في التربة..|

فتفاعل عوامل الاستعداد الفطري بالعوامل البيئية حقيقة أساسية في تكوين الفرد، ولكن العلماء اختلفوا في أيهما أقوى أثرفبعض العلماء يرى أن الاستعداد الوراثي هو الذي يقرر تكوين الفرد وأن للرعاية البيئية أثرا ضئيل المساعدة، وبعض العلماء يرى أن عوامل الرعاية والمجتمع هي التي تحدد نماذج التكوين وأنماط الشخصية وقوالب الحياة الاجتماعية، وإنها تستطيع أن تعدل وتغير كثيرا من ميول الفطرة واستعدادات الوراثة، وواقع الأمر إن كلا الطرفين متطرف في عرض رأيه، وقد أقر بشيء مما أثبته الآخر، فأنصار البيئة لا ينكرون آثار الاستعداد الفطري في التكوين الجسمي والمزاجي والعصبي، كما أن أنصار الوراثة لا ينكرون آثار الفعل البيئي في التكوين الخلقي والإدراكي والاجتماعي.


لقراءة المقال في جريدة الدستور