لطالما احتاجت الإرادة الشعبية الى أداة حيوية تكفل المشاركة في الحياة السياسية و التعبير عنها، مما يشكل أساس سلطة الحكومة في أي دولة ديمقراطية تعددية مستدامة، بداية من حرية التنظيم و التعبير و حرية التجمع السلمي، المبدئان اللذان كفلهما نص الإعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948 لضمان عمل الأحزاب السياسية بحرية.

ونظرا للدور المحوري الذي تؤديه الأحزاب السياسية في الديمقراطيات في العديد من البلدان فإنها أكثر وسيلة حيوية لمشاركة المواطنين في حكومتهم ولتحقيق الديمقراطية التمثيلية، فالتنظيم القانوني للأحزاب السياسية أمر معقد يتطلب النظر في نطاق عريض في العديد من المسائل و يتعين حماية الأحزاب السياسية كتعبير ضمني لحق الفرد في تكوين منظمات بحرية، فإن الأدوار الفريدة والحيوية التي تؤديها الأحزاب السياسية في العملية الانتخابية والحكم الديمقراطي تسوغ تنظيم الدول لدساتيرها وتشريعاتها بالقدر اللازم لضمان الحكم الديمقراطي الفع?ل والتمثيلي والنزيه.

باعتبار أن الأحزاب السياسية منظمات خاصة تؤدي دورا حيويا كفاعلات سياسية في المجال العام، فإن هذا يفرض تحقيق التوازن القياسي بين تنظيم الدولة للأحزاب كفاعلات عامة واحترام الحقوق الأساسية لأعضاء الأحزاب كمواطنين بالقدر المنشود الذي يكفل لهم خصوصيتهم وحقهم في التنظيم، من خلال تشريع ذو حبكة دقيقة وتفصيل واضح لا يتعارض ذلك كله مع حرية التنظيم، وهذا يتطلب تحديد الدور الملائم للدولة في تنظيم الأحزاب السياسية من خلال التشاور مع من يتأثر بهذا التنظيم من الأفراد والجماعات كجزء أصيل من عملية صياغة القوانين، فليس من ال?نطق أن تحكم الأحزاب السياسية تشريعات ووقوانين غير التي تحكم المنظمات العامة، إلا أن الوضع الأمثل هو إعداد تشريع يحترم الدور الفريد الذي تؤديه الأحزاب في أي مجتمع ديمقراطي، الأمر الذي لا يخرج عن تعريف الأحزاب السياسية في المبادئ التوجيهية التي أعدها مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الانسان التابع لمنظمة الامن والتعاون في أوروبا على انه تنظيم حر لأشخاص من أهدافه المشاركة في إدارة الأمور العامة، لأنه الجسر الحقيقي بين فرعي الحكومة التنفيذي والتشريعي.

فحرية التنظيم تمثل الحق المحوري الحاكم لعمل الأحزاب السياسية، فقد منحت مجموعة من المعاهدات العالمية والأوروبية والإقليمية المعترف بها جميع الأفراد الحق في ممارسة التنظيم الحر ممارسة كاملة، بما في ذلك تكوين المنظمات السياسية، كما أقرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالعلاقة الأصيلة بين حرية التنظيم و حريات تربط بينها جميعا روابط اعتماد متبادلة كحرية التعبير والرأي والتجمع، لتتلخص هذه الامور في الملاءة الحزبية التي تعكس الإرادة الشعبية الحقيقية في إدارة الأمور العامة

فالملاءة الحزبية تقتضي بداية حق الأفراد في التنظيم، فحق الأفراد في التنظيم و تشكيل الأحزاب السياسية يجب أن يسلم من أي تدخل، وحتى إن وُجِدت بعض القيود على حق التنظيم في بعض الديمقراطيات فيجب تفسيرها بشكل واضح و جلي حد التبرير المقنع للإرادة الشعبية، واذا تم التوافق عليها فتكون بقوانين و لا تستند الى أي شكل من اشكال السلطة التقديرية.

والملاءة الحزبية تقتضي أيضا واجب الدولة في حماية حق الأفراد في حرية التنظيم، فمسؤولية ضمان تفعيل التشريعات ذات الصلة للآليات والممارسات اللازمة للسماح للأفراد بالممارسة الحرة لحق التنظيم و تشكيل الأحزاب السياسية تقع عمليا على عاتق الدولة، كما و يقع على كاهل الدولة سن تشريعات تحظر تدخلها و تدخل أي جهة خارج نطاق الدولة، وفي حال وقوع انتهاكات لحق التنظيم الحر تتحمل الدولة مسؤولية تصحيح الوضع والتكفل بوقف الانتهاك بعيدا عن أي بيروقراطية تلحق الضرر بهذا الحق، ولا يجوز استحداث أي قيود على حق التنظيم الحر إلا على?النحو المنصوص عليه قانونا والضروري في أي مجتمع ديمقراطي والخاضع لمبدأ التناسب.

كما و تقتضي الملاءة الحزبية التفعيل الحقيقي لمبدأ الشرعية، فأي قيود تفرض على حق الافراد في التنظيم والتعبير ينبغي أن تستند إلى أسس قانونية متضمنة في دستور الدولة أو القوانين البرلمانية على ان لا تكون ناتجة من إفرازات النشاط السياسي الحزبي، فتكرار عمليات التغيير في التشريعات الناظمة للعمل الحزبي يعد مظهرا من مظاهر اتباع الهوى السياسي بعيدا عن أي مصلحة عامة ظهارة الحجة، هذا بالإضافة الى وجوب مراعاة دساتير البلاد وقوانينها البرلمانية الى حق التنظيم الوارد في المعاهدات الدولية والإقليمية ذات الصلة.

وتقتضي الملاءة الحزبية البناء على مبدأ التناسب، فأي قيود تفرض على الأحزاب السياسية يجب أن تكون متناسبة في طبيعتها وفاعلة في تحقيق الأغراض المحددة لها، ونظرا لدور الأحزاب في العملية الديمقراطية ينبغي موازنة التناسب.

وتطبيق أية تدابير مانعة في أضيق الحدود، فينبغي حصر أي قيود مفروضة على ما يلزم منها في مجتمع ديمقراطي والنص عليها في القانون، فأي قيود يجب أن تفي بهاذين المعيارين حتى تحقق مبدأ التناسب و الملاءة الحزبية تقتضي أيضا مبدأ عدم التمييز والمساواة في المعاملة، فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن تحتوي اللوائح و القوانين المنظمة للأحزاب السياسية في أي بلد أي شكل من أشكال التمييز و خاصة التمييز بسبب الآراء السياسية، كما ويجب أن يتاح تأسيس الأحزاب السياسية لمن يلتمس ذلك من الأفراد أو الجماعات على أساس من المساواة أمام الق?نون، فلا يجوز للدولة إحداث فروق إيجابية أو سلبية بين الأفراد أو الجماعات الراغبة في تكوين حزب سياسي، ويستثنى من ذلك عمليات التمكين للنساء والأقليات التي عانت التمييز في الماضي.

وتقتضي الملاءة الحزبية أيضا مبدأ التعددية السياسية، فيجب على التشريعات الناظمة للحياة الحزبية تهيئة بيئة سياسية تعددية، وأن تنظر الى إمكانية تلقي المواطنين وجهات نظر سياسية منوعة، على انها عنصر حيوي إيجابي من عناصر المجتمع الديمقراطي الراسخ، فالتعددية السياسية تعتبر ضرورة حتمية لضمان تمتع الافراد بفرصة حقيقية في اختيار ارتباطاتهم الحزبية واختياراتهم الانتخابية.

ولا تكتمل الملاءة الحزبية بدون توفر مبدأ سلامة تطبيق التشريعات المتعلقة بالأحزاب السياسية ومبدأ الحق في التصحيح الفعال في حالة انتهاك الحقوق ومبدأ المسائلة، فهي الضامنة لمخرجات القوانين والتشريعات الناظمة لحقوق التنظيم والتعبير والرأي والتجمع. وأخيراً، لا أفرض نفسي كمنظّرة سياسية مسطرةّ معايير ومبادئ للملاءة الحزبية، فهذه محاولة متواضعة لا تتعدى كونها مبادئ توجيهية يستنار بها، تحقيقا للرؤى الملكية التي أنظر اليها بعين القداسة.

الرأي

الملاءة الحزبية | صحيفة الرأي (alrai.com)