إن الكاريزما تميز تام وحضور فوق العادة، وإذا كان صحيحا أن الإنسان صنيعة النمط الحضاري لبيئة ذلك النمط الذي ولد في وسطه، فإنه صحيح كذلك أنه قادر على التغير والتبدل إذا ما تغيرت مفردات الحضارة من حوله وهذا ما أثبته البحث العلمي أيضا، فالبحارة الإسكندنافيون في العصر البرونزي وهم بلا شك أجداد الاسكندنافيون المعاصرين غيرهم اليوم من حيث استبدالهم لحياة التنقل بحياة الاستقرار والثبات، وكذلك المرح الصاخب في حياة إنجلترا في عهد إليزابيث الأولى يختلف جدا عن الاتجاهات في إنجلترا في عهد إليزابيث الثانية كما أن الخلاعة الشهوانية في عهد التجديد تعارض بصورة حادة التزمت في العهد الفيكتوري، وقد كان الإنجليز حتى منتصف القرن التاسع عشر معروفين بالشراسة والعدوانية ولكنهم اليوم يظهرون طاعة جمة للقوانين واحترام النظم.

إن إحدى خصائص الإنسان الأساسية قابليته على التغير والتبدل في ظروف متغيرة، وقدرته على إحداث التغيرات الضرورية في داخل نفسه ، ملائمة لمتطلبات المحيط المتغير، وإن هذه الصفة صفة المرونة أو القابلية على التكيف والتثقيف صفة مكنت الإنسان من اجتياز الكثير من عقبات الحياة و مشكلاتها الطبيعية والاجتماعية، وإن بقاء النوع الإنساني وتقدمه يعتمد على قدرة الطبيعة البشرية أساسا على التحول بواسطة التكيف إلى الظروف المتغيرة، فما حسبه أكثر الناس على أنه الطبيعة البشرية، هي في الحقيقة طبيعة اكتسبت بواسطة الاستعدادات الفطرية لتنتج إنسان في حضارة معينة، فالطبيعة البشرية نمط من السلوك، قادر على التغير، ليس من عصر إلى عصر فقط بل في داخل الشخص نفسه في عصر واحد.

وبما أن الطبيعة البشرية كثيرا ما اعتبرت نتاجا للإرث البيولوجي وهي ثابتة محدودة بالوراثة البيولوجية، فقد حسبت الحضارة تجاوزا نها تغيير في الإرث البيولوجي، بينما الأمر في الواقع هو أن الطبيعة البشرية تعبير عن التفاعل بين الإرث البيولوجي والأوساط الثقافية التي يوجد فيها هذا الإرث في حالة تطبيع (Condit ional) وتأنيس (Socialized) وعن فقدان المنبه الحضاري يفشل هذا الكائن في أن يعبر عن الطبيعة أيا كانت، منفصلة عن ظاهرة العمل الجسدي الصرف لأن الكائن ينبغي ن يطعم إذا شاء الحياة وإن حالات الأطفال نصف المعزولين ( Semi- isolated ) الذين ترعرعوا في الغابات تشهد لهذه الحقيقة شهادة وافرة، إذن فالطبيعة البشرية مكتسبة متعلمة ضمن حدود الاستعدادات البشرية الفردية لتصوغ إنسانا في حضارة معينة.

الآخر ضمن التكوين النفسي لشخصية الفرد، فمن المعروف أن أسلوب حياة الجماعة – أي جماعة – يتأثر لأنها تعيش في الصحراء أو بين الجبال أو في جزيرة أو منطقة معتدلة المناخ، أو لأنها تعيش في أرض لا تصلح للزراعة أو في وادي خصب، هذه العوامل المختلفة ذات أثر في شخصية الجماعة كلها، وفي شخصيات الأفراد التي تتكون منهم هذه الجماعة.

فالأسكيمو الذين يعيشون في جزيرة غرينلاند يعانون ظروف جغرافية قاسية بحيث لا يستطيع مقاومتها إلا الأقوياء منهم، أما الضعفاء منهم فإنهم يفنون تدريجيا ولا يصمدون أمام قسوة الطبيعة، وقد قضت طبيعة بلادهم الجغرافية عليهم أن يعيشوا ضمن نظام اجتماعي يتميز بالانفرادية إلى حير كبير، فكل منهم يصنع أدواته وأسلحته بنفسه، ويخرج إلى الصيد لوحده ، ويواجه مصاعب ومشكلات الحياة لوحده، ودون معونة من غيره.

والأسرة عندهم وحدة اقتصادية مكتفية بنفسها ذاتية، وإذا ما اضطرت للعيش مع غيرها من الأسر في بيت واحد فإنها تطهو طعامها بشكل مستقل عن الأسر الأخرى في الشتاء خاصة، وذلك لأن الطهي الجماعي متعذر أو مستحيل لأنه يستهلك وقتا أطول لإعداده كما أنه يتعذر عليهم نقل الموقد الكبير من منازل الشتاء إلى منازل الصيف، وهم بذلك أقدر على التكيف الفردي للبيئة من التكيف الجماعي، لضرورات وخصوصيات بيئتهم الجغرافية، لذا نرى بروز صفات التحدي والاعتماد على النفس والمبادأة والذات القوية القادرة على الصبر والمقاومة فيهم بشكل واضح.

وما يصدق على ظروف الأسكيمو وتأثيرها في تكوينهم النفسي بصدق على الجماعات البشرية الأخرى التي عاشت ولا زالت ضمن ظروف جغرافية خاصة بها.

لقراءة المقال في جريدة الدستور