إن الشراكة المجتمعية لغة الشخصية الثابتة ، فعلى التربية وتوجيهاتها تترتب الآثار الكبرى في تحديد الوضع النهائي للتكوين النفسي والعقلي والاجتماعي للفرد، وفي عمليات التربية تتفاعل عوامل الوراثة وما تضمه من استعدادات وقابليات بعوامل البيئة المادية والاجتماعية التي يتبناها المجتمع كأساس للتوجيه، وعلى أساس القيم التي تتبناها التربية تتحقق رغبات الأفراد والجماعات داخل النطاق الحضاري العام، وتتحقق درجات التكامل الاجتماعي في المجتمع ، وهي كفيلة بتقليل ظهور المؤثرات ومظاهر السلوك المنحرف وتعمل على اندماج الفرد بالجماعة وإيمانه بأهدافها وقيمها.

فالإنسان حينما يخرج في لحظة الولادة إلى الحياة يجد أمامه بيئة تتبنى ثقافة تربوية اجتماعية تحدد معالمه التكوينية وتحمله على تشربها وتمثل مفاهيمها خلال عمليات وأدوار نموه، حتى إذا استوى وكبر قام بنقل تلك الثقافة والأنماط التربوية الاجتماعية التي تعلمها إلى صغاره، أو يسعي إلى تغييرها وملاءمتها لمطالب الحياة الاجتماعية المتغيرة والمتجددة.

فالطفل البشري يمتاز بوراثة سلالية وقابليات فطرية لها قابلية التشكل والتكيف وفق إرادة البيئة وأهدافها وهي تمتاز على سائر الكائنات الحية بمرونتها ومطواعيتها على التعديل والتوجيه والتأثر بعوامل التربية.

والطفل إنما ينتقل من حالته كطفل بيولوجي يشابه صغار الحيوانات إلى شخصية إنسان اجتماعية قادرة على التفاعل مع الوجود، عبر عمليات التربية الاجتماعية التي جد أجواءها قائمة بعد الولادة مباشرة، ويحدثنا القرآن الكريم عن هذه الحقيقة حينما يشير إلى السمع والأبصار والأفئدة كأجهزة لاستقبال وهضم المؤثرات التربوية .

فالإنسان يولد وهو يورث قدرته على الكلام وحينما يبلغ النضج الكافي فإنه يتكلم اللغة الشائعة في بيئته وإذا أهملت تربيته ورعايته وعاش مع الحيوانات في الغابة مثلا ضمرت فيه سمات التكوين النفسي للإنسان الطبيعي وانعدمت فيه الشخصية البشرية الاجتماعية ولم يتكلم لغة المجتمع وإنما يصرخ كما تصرخ الحيوانات ويعوي كما تعوي الأحياء من حوله.

وللتربية الاجتماعية التي يتولاها المجتمع وأفراد العائلة الأثر البليغ في تكوين الجانب الانفعالي والإدراكي لدى الطفل كما تحدد له مفاهيم الحياة وممارساته السلوكية اجتماعيا.

فالإنسان يخضع لكل المؤثرات الاجتماعية التي يتلقاها من مجتمعه مباشرة أو عن طريق خلية المجتمع القريبة منه والمتمثلة بأسرته، أو المدرسة التي يدرس فيها أو أي مؤسسة اجتماعية ينتسب إليها في أدوار حياته المختلفة فممثلو المجتمع من الآباء والأمهات والمعلمين والمسؤولين والأصدقاء، يتولون نقل تراث المجتمع ويعدونه إعداد نفسية وجسمي وعقلي للاضطلاع بدوره الفاعل في المجتمع.

فكلما سمت الغايات والأهداف التربوية لدى المربين الذين يتولون أمر التربية في المجتمع كلما كانت نتائجها حسنة وسليمة في الأولاد، وعلى الأجيال الآتية، وبعكسها لو أهملت التربية أو تدنت مراميها وأغراضها ساءت نتائجها وتدهورت ثمارها، وكذلك المحيط التربوي العام للمجتمع بما فيه الإدارة السياسية والإعلامية له كبير الأثر على منحى الأجيال واتجاهاتهم واهتماماتهم الأخلاقية والاجتماعية، فكلما تميز المحيط بالنظافة والالتزام أثر إيجابية في نظاقه أخلاق الأجيال والعكس صحيح أيضا إن نوع الثقافة العامة الشائعة في المجتمع أو ما يصطلح عليها بالحضارة أو الثقافة المميزة (Culture) كذلك تحدد نظرتنا بقدر كبير إلى الكون والحياة ومكاناتها فيها، وطرق تفكيرنا وتعبيرنا عن انفعالاتنا وإرضائنا لدوافعنا، وفيما ندركه من معايير المحظور والمباح، والعدل والظلم، الحق والباطل، يضاف إلى ذلك أن الثقافة هي التي تعين السبل الأساليب التي يتبعها الوالدان في تنشئة الأطفال، وفيما إذا كانت وسائل قائمة على التشدد أو التسامح أو أنها تفرض على الطفل تكاليف الرجولة من عهد مبكر أم تنتظره حتى يبلغ مدى نضجه الطبيعي، فثقافة المجتمع تعيش فينا كما نعيش فيها، وتنعكس علينا آثارها، وما الشخصية إلا مظهر ذاتي للثقافة في بعض جوانبها.


لقراءة المقال في جريدة الدستور