تنبثق الأحزاب الحقيقية من الأيديولوجيات ليبني كل حزب نفسه على هيكله الأيديولوجي الخاص به وحزب بلا أيديولوجيا حزب بلا هيكل، حتى أحزاب «الاستقطاب العشوائي – Catch-all party» أو «الخيمة الكبيرة – Big tent party» التي تعتمد على استقطاب أكبر عدد ممكن من الناس بغض النظر عن توجهاتهم الأيديولوجية تعتمد أيديولوجيا «السلطة بغض النظر عن التوجهات» فهي تسعى لاستحواذ أكبر عدد من الأصوات لتشكيل الحكومة.
تمر الديمقراطية الأردنية بفضل الإرادة السياسية الملكية بطور التأسيس لديمقراطية وطنية حزبية، ولا شك أن هذه الرؤية الملكية قفزة جريئة وطموحة وغير مسبوقة على مستوى المنطقة إلى المستقبل، إذ أنها تنتقل بالديمقراطية الأردنية من الانتقالية إلى التعددية الحزبية، والعنصر الأساس لنجاح هذه الرؤية السياسية هو الوعي السياسي المجتمعي بشكل عام، ووعي النخب السياسية بشكل خاص، والرهان على النخب السياسية في تشكيل أحزاب واضحة المعالم مبنية على أيديولوجيات وطنية تمثل التوجهات المجتمعية الرئيسية، ومن ثم ممارسة وظائف الحزب الرئي?ية وأهمها ممارسة السياسة الاجتماعية لنصل إلى مجتمع مثقف وواع سياسيا.
التنبؤ بمآلات التحول الديمقراطي الحزبي صعب في الوقت الراهن، وسواءً كانت النتيجة نظام الحزب أو الحزبين أو الثلاثة أحزاب أو الحزب الثالث المعطل أو الأحزاب المتعددة فإن المحصلة النهائية واحدة وهي حكومات برلمانية حزبية مع فروقات الفاعلية، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الجزئية يتمثل بمدى حاجتنا للتكنوقراطية في عملية التحول هذه، فمن جهة لا يمنحنا الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي هامشا كبيرا للمغامرة بالابتعاد عن التكنوقراطية، ومن جهة أخرى تشكل التكنوقراطية بحد ذاتها–في ظل ثقافة حزبية ضحلة–عائقا كبيرا أمام ال?حول للحكومات البرلمانية الحقيقية، فهل – إن صح التعبير – يكون الحل في توجيه محدود للديمقراطية في بعض المواقع؟ أم خوض غمار التجربة بكل حيثياتها وأبعادها؟ الاجابة صعبة وبحاجة لحنكة سياسية كبيرة تعودنا وجودها دوما والتي بفضلها تجنب الأردن منعطفات خطيرة على امتداد تاريخه السياسي.
العوائق الأهم في عملية التحول الديمقراطي تتمثل بمستوى الثقافة والوعي السياسي المجتمعي من جانب، ومن جانب آخر التحديات الاقتصادية الناتجة بشكل رئيسي عن الأزمات الاقتصادية المتتالية التي عصفت بالعالم أجمع–كأزمة وباء «كورونا»–والمنطقة خاصة–كأزمة اللاجئين–مما أدى إلى تفاقم حجم الدين العام بالنسبة للناتج المحلي الاجمالي وارتفاع نسب التضخم والبطالة وانعكاساته على القوة الشرائية للعملة الوطنية وآثاره من رفع للفائدة وتحديد للسيولة، ناهيك عن الحرب الروسية الأوكرانية وتبعاتها على الاقتصاد العالمي والتغيرات الجذرية ال?ي تعصف بالنظام المالي الدولي من تشكّل أقطاب مالية دولية جديدة وأنظمة مصرفية عالمية في طور التخطيط والتشكل. ولا شك أن العمل الحكومي قائم في هذا المجال على قدم وساق لضمان الاستقرار اللازم لعملية التحول الديمقراطي والتنمية الشمولية بشكل عام، ولا زال هناك الكثير للعمل عليه كالتصنيف الإئتماني الدولي وتهيئة البيئة الاستثمارية المحلية وتمكينها.
بغض النظر عن التحديات الكبيرة إلا أن خوض الأردن لهذه العملية السياسية التحولية يمثل بحد ذاته دليلا قاطعا على الإرادة السياسية القوية والاستشراف المستقبلي الواضح للوصول بالديمقراطية إلى مستويات متقدمة تضمن معدلات تنمية شاملة عالية، ودورنا كمواطنين تطوير ثقافتنا السياسية ورفع مستوى وعينا السياسي والانخراط بالعمل الحزبي، وكحزبيين تهيئة البنية الحزبية المناسبة واضحة المعالم والمشاركة في تشكيل هياكلها ومعالجة عيوبها.