ناقش العلماء طويلا فيما إذا كان عالم الأنثروبولوجيا يستطيع دراسة الشخصية في المجتمعات البدائية دون أن يخضع هو نفسه للتحليل النفسي ولم يدر حديث طويلا عما إذا كان يجب على عالم التحليل النفسي الذي يهتم بالدراسة المقارنة للثقافات أن يحصل على معلومات مستمدة من خبرة مباشرة بالمجتمعات التي تختلف عن مجتمعه اختلافا تاما في الجزاء والأهداف وأنظمة الحوافز والضبط الاجتماعي غير أن مجرد الإقرار بأن تركيبات الشخصية الأساسية تختلف باختلاف المجتمعات لا يحقق تقدما أكثر من مفهوم النمط الثقافي السيكولوجي ولا يكتسب هذا الإقرار أهمية علمية إلا إذا أمكننا تقصي طرق تكون الشخصية الأساسية وإرجاعها إلى أسباب يمكن التعرف إليها وإذا أمكننا أيضا التوصل إلى تعميمات مهمة بشأن العلاقة بين تكون التركيب الأساسي للشخصية وبين الإمكانات الفردية الخاصة في مجالات التكيف .

ومما يلاحظ أن سيكولوجية الشخصية سارت في خط تطوري يكاد يكون مماثلا لخط تطور الأنثولوجيا فقد وقع هذا الفرع في باديء الأمر تحت تأثير العلوم الطبيعية فحصر اهتمامه في الفرد وحاول تفسير أوجه التشابه والفروق الفردية على أسس نفسية ومع أن علماء النفس سرعان ما أدركوا أهمية البيئة في تشكيل الشخصية فإن فائدتها اقتصرت في البداية على استخدامها في تفسير الفروق الفردية.

وبما أن الثقافة في جوهرها ظاهرة نفسية تعيش في عقول الأفراد ولا تجد تعبيرا عن نفسها إلا عن طريقهم فإن دور الشخصيات الفردية في الإبقاء على الثقافة يتضح بصورة جلية جدا في الطريقة التى تتمكن بها أي ثقافة من البقاء على قيد الحياة حتي بعد انقطاع التعبير عنها في سلوك خارجي ظاهري وحتى بعد زوال المجتمع الذي كان يحمل هذه الثقافة في الأصل ولذلك يستطيع عالم الأنثولوجيا أن يستعيد العناصر الأساسية لثقافة مجتمع منقرض من آخر رجل من هذا المجتمع بقي على قيد الحياة كما يستطيع أن يستعيد المهارات الخاصة التي سبق أن تدرب عليها هذا الرجل.
وتأسيسا على ما تقدم نجد أن هناك علاقة وثيقة وتفاعلية بين الثقافة وأبنائها فهي التي توجههم في جوانب حياتهم المختلفة لدرجة أنهم يتصرفون بطريقة منسجمة وآلية في معظم الأحيان، والأفراد في المقابل يؤثرون في هذه الثقافة ويسهمون في تطويرها وإغنائها من خلال نتاجاتهم وإبداعاتهم الفكرية والفنية والعلمية.

ولذلك، نرى اهتمام علماء التربية والاجتماع والأنثروبولوجيا بدراسة الثقافة للتعرف إلى السمات العامة للفرد أو الجماعة المجتمع في إطار مكونات هذه الثقافة والتعرف بالتالي على أنماط الحياة الاجتماعية للناس وتفسيرها والتمييز فيما بينها.

لقراءة المقال في جريدة الدستور

لقراءة المقال في موقع عمون